مفترق الطريق

لم أكن يوماً عريفاً أو جرموساً أو حتى شبلاً. لم تستهوني الحياة الكشفية البتة. المخيم الوحيد الذي ذهبتُ إليه لم يكن كشفياً كما درجت العادة في المدارس، بل كان نوعاً من حلقة عمل مشترك امتدت لأسبوعين في إحدى مدارس صيدا الرسمية على تخوم مخيم عين الحلوة.
مع الفكرة المسبقة عن اليمين الانعزالي الذي لا يتقبل الآخر، أُفاجأ بشباب يساريين حتى العظم غارقين في أيدولوجيات موصَدة. هم في بداية التزامهم وأنا حينها لم أكن أعرف "الخمسة من الطمسة" (لنفترض أنني أعرف الفرق الآن). كنتُ مبهوراً بما يرمونه من عبارات خلال المناقشات.
علي مثلاً كان يحور ويدور ويعود لعبارته المفضّلة: "التراكم الكمي يؤدي إلى تحول نوعي". علي كان يعيش مع صورة غيفارا وتي-شرت "حنظلة" التي كان يوزع منها بالمجان ولا تسألوني من أين. علي الشيعي كان شيوعياً. كان شيعياً مختلفاً من ناحية خروجه عن الخط التقليدي السياسي داخل الطائفة والمتمثل بالإنتماء إما لحركة أمل أو لحزب الله. تسأل علي عن الدين فيفصِح عن رأيه بضرورة علمانية الدولة. أحارجه "بفهماتي اللي على قدي": لكنني لم أسألك عن علمانية الدولة، سألتك عن الدين ما رأيك فيه؟ يستفيض في الشرح ويدعم آراءه منهياً بالقول المشهور: "الدين أفيون الشعوب". ماذا لو قصد ماركس بالدين "ممارسات الكنيسة" حينها؟ أسأل. يصر على قوله مثبتاً الكليشيه لدى المتدينين ممن يعانون من "رهاب الشيوعية": "الشيوعي واحد بلا دين".
أذكر رنا أيضاً. وإذا كان علياً من الناس الذين تستشرف منهم حبهم للقيادة، تبدو رنا ممن يتلمسون طريقهم محاولةً فهم أسباب وأحداث الحرب اللبنانية. لكن رنا بدأت بأعقد الحالات التي ينتفي فيها المنطق، ولا عجب أن تراها تسأل :"شو ودّى موسى الصدر ع ليبيا؟ وشو خص معمر القذافي فيه؟؟"
أما خليل فعاطل عن العمل تأخر في دراسته لسنوات قبل أن "ينتفض" فجأة فيعود ليدرس في مراكز متفرقة كل ما يتعلق بالرسم والتصميم. خليل لم يكن "رفيقاً" بل كان صديقاً للرفاق. يفهم في تفاصيلهم ولكن يؤثر البقاء على حياديته وكثيراً ما كان يلعب دور "محامي الشيطان" فتراه يقوم برمي كلمة من شأنها رفع حرارة النقاش إلى مستوياتها القصوى..
ندى كانت الجميلة التي تحظى بالاحترام من الجميع. جمالها لا يترافق والصمت؛ بل على العكس تراها "تحارج" في أصعب الأشياء وقد تُلزمك الصمت أمام جميلة.. ذكية وهما صفتان إن اجتمعتا أصابتاكَ في مقتل.
تلك اللقاءات كانت منذ ثماني سنوات. أما الآن فكل بات في طريق مختلف.
لا أدري لمَ يحضرني "عودة الإبن الضال" بتفيدة (ماجدة الرومي) وإبراهيم (هشام سليم). "فيلم النكسة" كان يُعرَض عند كل 5 حزيران على إحدى الشاشات المحلية. تغيـِّر أمي المحطة أو تشاهد الفيلم على مضض محضِّرةً علبة المحارم الورقية للمشاهد النهائية تماماً كـَ "دعاء الكروان".
تغني "تفيدة":
"الشارع لنا .. لينا لوحدنا.. الناس التانيين دول مش مننا"
أما علي فعرفتُ عبر مجلة سياسية محدودة التوزيع أنه أصبح يسارياً ديموقراطياً ونزل الشارع مع تحالف قوى طائفية يعلنون دائماً بلا مواربة لازمة "الشارع لنا .. لينا لوحدنا.. الناس التانيين دول مش مننا"..
رنا ما زالت تتلمس طريقها. المرة الأخيرة التي رأيتها فيها كانت في أحد مقاهي الأشرفية. جلست إلى طاولة وحيدة وأشعلت سيجارة و"سرحت" عبر واجهة المقهى الزجاجية إلى الخارج.. آثرتُ عدم قطع لحظتها.. يبدو أنها كانت ما تزال تفك الأحجية ذاتها.
أخمن أن خليلاً رسم لوحته الزيتية الأولى أو الخامسة لاأدري. لكنني متأكد أنه ما زال يلعب دور محامي الشيطان ذاته مع فارق العمر والخبرة..
ندى باتت ممثلة كما علمت من إحدى المجلات الجامعية. أظن أن جمالها سيساعدها في مهنتها المستقبلية وإن كنت لم أشاهد لها عملاً حتى الآن..
"تفيدة" في مشهد نهائي تترك القرية مع ابراهيم وعائلتها "الكادحة".

" إيه العمل دي الوقت ده يا صديق؟
غير إننا عند افتراق الطريق
نبصّ قدامنا ..على شمس أحلامنا
نلقاها بتشق السحاب الغميق "

مفترق الطريق يخفي وراءه أحلاماً كبيرة بعيداً عن دموية أفراد العائلة. الأحلام الكبيرة قد تفضي إلى "نكسات" تماماً كـَ "نكسة" الإبن الضال. لكن الأمل يكمن في أن يتلمس الضال طريق النجاة..
قولـَك: "ما عادش فاضل.. كتير؟؟"

+++

كـُتـِبَ هذا النص العام الماضي.